فلسطين في الموسيقى العالميّة

الفنّان الجمايكي بنجامين زفانيا، من داعمي فلسطين | Getty

 

دفعت القضيّة الفلسطينيّة الفنّانين المناصرين للقضايا العادلة في العالَم، إلى إصدار أناشيد وأغانٍ داعمة للشعب الفلسطينيّ ومطالبه التحرّريّة، وقد استخدم فنّانون من مختلف أنحاء العالَم أدواتهم الإبداعيّة للتعبير عن التضامن معه، باعتبار الفنّ صاحب دور مهمّ في رفع مستوى الوعي بالقضيّة ومناصرتها حول العالَم، خاصّة عند الشعوب الّتي مرّت بتجارب استعماريّة واستيطانيّة مشابهة.

غالبًا ما تحتوي الأغاني الّتي تتناول فلسطين على كلمات ذات أثر قويّ، تحكي قصصًا أو تصوّر مشاهد من حياة الفلسطينيّين، وتسلّط الضوء على قضايا مثل الفصل العنصريّ، والتمييز، وانتهاكات حقوق الإنسان، والإبادة، والرفض، والمقاومة، والمطالب بالحرّيّة والعدالة، وغيرها. يشجّع الغناء العالميّ حول فلسطين على تصوّر عالَم يسوده السلام والوحدة في صدّ الظلم، ويسلّط الضوء على إمكانيّة التغيير الإيجابيّ لصالح الفلسطينيّين، الّتي ما تزال عالقة دون إيجاد حلّ عادل منذ أكثر من 75 عامًا.

 

وعي مضادّ

تتعمّق الدراسات الثقافيّة المرتبطة بالموسيقى وغيرها من الفنون، في دراسة التفاعل المعقّد بين المجتمع والهويّة وهياكل السلطة وعلاقات المستعمِر بالمستعمَر، وسبل المقاومة في هذا السياق. يأتي هذا الاهتمام بالأغاني والموسيقى بوصفها نتائج ثقافيّة للردّ على احتكار الإعلام والوسائل الثقافيّة، من قِبَل المستعمِرين؛ السلطة الأقوى، بعد أن حُيِّدَتْ الأفكار الطبيعيّة للمقاومة، وفُرِضَتْ أدوات تهميشيّة لثقافة المستعمَر، والإمعان في استخدام أدوات للفصل العنصريّ. من هنا؛ فقد جاءت الأغاني الثوريّة مثلًا منتدياتٍ للمعارضة، وخلق حالة الوعي المضادّ والمناهض لسرديّات الاستعمار بمختلف وأدواته؛ ولتجسيد الوثيقة التاريخيّة للفعل المقاوم، وحفظها شاهدًا على وجود الوحش الّذي ينهش بطن المدينة.

 

 

إنّ الأغاني المتعلّقة بالاستعمار والفصل العنصريّ والتمييز والحروب بمنزلة تعبيرات مؤثّرة عن المقاومة، والدعوات إلى العدالة الاجتماعيّة وفضّ قيد الاستعمار؛ ونجد أنّ أشهر الأغاني لفنّانين نقديّين أو ثوريّين في العالم كانت من شعوب كشعب جنوب أفريقيا، مثل ميريام ماكيبا وهيو ماسيكيلا خلال حقبة الفصل العنصريّ، وصولًا إلى أعمال خالدة وصلت العالميّة، مثل «الحرب» لبوب مارلي أو «الحديث عن الثورة» لتريسي تشابمان؛ لتتجاوز هذه الأغاني الحدود، وتصبح أناشيد للمجتمعات المهمّشة في جميع أنحاء العالَم، ولتتحوّل الروايات الغنائيّة والألحان المثيرة للمشاعر أدواتٍ للتعبير عن النضال ضدّ القمع المنهجيّ والتمييز العنصريّ.

 

أصبحت هذه الأغاني بمنزلة قطع أثريّة ثقافيّة، توثّق المناخ الاجتماعيّ والسياسيّ في عصرها، وتساهم في الوعي العالميّ الجماعيّ. وبالتالي، توفّر الدراسات الثقافيّة عدسة يمكننا من خلالها تحليل التأثير العميق للموسيقى في تشكيل التصوّرات، وتعزيز التضامن، وإلهام التغيير، وتفسيره وتقديره، في مواجهة المظالم التاريخيّة.

 

نماذج من العالَم

ألهمت القضيّة الفلسطينيّة فنّانين سوفييتيّين وأوروبّيّين وأفارقة ليغنّوا لفلسطين ولحرّيّتها؛ لتبقى أغانيهم حاضرة في جميع المسيرات والوقفات الاحتجاجيّة والمظاهرات المندّدة بوجود نظام فاشيّ، تمعن آلته الحربيّة بقتل الشعب الفلسطينيّ الأعزل؛ فمن إيطاليا أطلق الفنّان أمبيرتو فيوري أغنية «Della Rossa Palestina» لتُصَنَّف أشهر أغنية شيوعيّة مساندة للقضيّة الفلسطينيّة منذ سبعينات القرن الماضي، وموضوعها الرئيس الدعوة إلى وحدة فلسطين، وتمجيد قوّة الفدائيّات والفدائيّين، والتغنّي بقدرتهم على الوقوف أمام الاستعمار، مع ربط قضيّة فلسطين بقضيّة فيتنام الّتي انتصر فيها الفيتناميّون على الولايات المتّحدة.

وفي عام 1976، أطلقت فرقة «كوفيا» (Kofia) في السويد، الّتي أسّسها الفلسطينيّ جورج توتري، أغنية «ELD Palestina Mitt Land» الّتي تندرج تحت أغاني المقاومة الخالدة، والّتي سلّطت الضوء على ممارسات التهجير والحصار والتجويع المفروضة على الشعب الفلسطينيّ، مع الدعوة إلى الخلاص من الاحتلال والإمبرياليّة، والممارسات الرجعيّة الّتي تُضْعِف القدرة على التحرير، والحديث عن المذابح الّتي نفّذتها المجموعات الصهيونيّة، مثل «الهاغانا» و«شتيرن»، ضدّ أبناء فلسطين.

 

 

يقول جورج توتري لموقع «TRT World» إنّه أسّس هذه الفرقة ليعرّف الناس بعالم فلسطين وقضيّتها المسالمة، وينشر مظلوميّتها في المهجر بمساعدة أبناء الشتات الفلسطينيّ[1]. في سبعينات القرن الماضي، بدأ توتري العمل على إنشاء الفرقة، وانضمّ إليها عدد من الشباب الغربيّين الّذين آمنوا بقضيّة فلسطين التحرّريّة، رغم القيود الّتي فرضتها السويد عليهم. وبحسب توتري فإنّه كان ثمّة العديد من الفرق والموسيقيّين الفلسطينيّين في جميع أنحاء العالم، وأنّ الغالبيّة العظمى منهم كانوا يغنّون مباشرة للشعب الفلسطينيّ وقضيّته، لكنّ نهج «كوفيا» (Kofia) الفريد في استخدام الموسيقى السويديّة أداةً لتثقيف الشعب السويديّ، ونقل رسالة المقاومة الفلسطينيّة إلى الأوروبّيّين بلغة خاصّة بهم، جعلهم بارزين بالأغاني والكلمات الملهمة واللحن الحماسيّ.

وبعد أعوام قليلة، أصدرت فرقة «كوفيا» أغنية «Leve Palestina» الّتي تعمّقت في تحدّي الأيديولوجيّة الصهيونيّة، وتمجيد خصوبة الأراضي الفلسطينيّة وقدرتها على الحياة الطويلة ومقارعة الاستعمار، والتغنّي بصمود اللاجئين، وتأييد المقاومة. وبعد أن ظلّت هذه الأغنية محظورة لما لا يقل عن 40 عامًا بتهمة معاداة الساميّة، أُعيد إحياؤها بقوّة بعد حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ، باستحضارها مع «رقصة الحرّيّة» الملحميّة للسكّان الأصليّين في ما بات يُعْرَف اليوم بـ ’القارّة الأمريكيّة‘، الّتي تجسّد رفضهم للإبادة، وتعبّر عن قوّتهم وتمسّكهم بحقّهم في العيش ومقاومة الاضطهاد؛ في رسالة بأنّ المقاومة أبديّة وخالدة، والأغاني الحماسيّة الداعمة لها ملهمة للشباب العربيّ الأوروبّيّ للنزول إلى الشارع، والتنديد بالاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين بعامّة، والحرب على قطاع غزّة بخاصّة. شكّلت «Leve Palestina» شرارة فنّيّة ألهبت مواقع التواصل الاجتماعيّ، واستخدمها صنّاع المحتوى لبناء ذاكرة جمعيّة بعد 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 بفيديوهات قصيرة، وتنسيقات فنّيّة ملهمة.

في عام 1995، أصدر الفنّان الجامايكي بنجامين زفانيا أغنية «فلسطين» (Palestine)، الّتي تطلّع بها إلى حرّيّة الأرض والإنسان، وعبّر عن رغبته في أن تتحرّر فلسطين كما تحرّرت جنوب أفريقيا وتيمور الشرقيّة. يتغنّى زفانيا بشجرة الزيتون الفلسطينيّة، وبالمحاربين الفلسطينيّين القدماء على أسوار مدينة القدس. يؤمن زفانيا في أغنيته بأنّ الحرّيّة قادمة إلى الشعب الفلسطينيّ المناضل، وبأنّ الحقيقة الّتي لا يمكن للاحتلال أن يطمسها أنّ الحرّيّة لفلسطين مهما طال الزمن، وأبناء البلاد الّتي تحرّرت من الاستعمار يعرفون كيف تُؤْخَذ الحقوق.

وللمدينة والشوارع والحارات، ومساكن الأهل والأطفال في فلسطين، نصيب في أناشيد الألبانيّ آدم رمضاني، وأغنية «فلسطين» (Palestine) الّتي أصدرها في عام 2007، والّتي كانت في مقام الحزن والتوق إلى حرّيّة المدينة والقرية في فلسطين.

 

 

أنشد رمضاني لأحلام الأطفال، ومستقبل الفلسطينيّ الّذي تغتاله آلة الوحشيّة الإسرائيليّة كلّ يوم منذ 76 عامًا. غنّى رمضاني لعقود من الدمار، وكوابيس في كلّ ليلة، وأحلام مبعثرة، وآمال ينسفها الفصل العنصريّ والمستعمِر الإسرائيليّ، وجرحى وأسرى لا ينامون بكاءً وحرقة.

وعن حقوق الإنسان في غزّة وفلسطين عمومًا، أصدر المغنّي مايكل هارت أغنية حملت عنوان «لن ننهزم» (We Will Not Go Down)، بعد أن شنّت إسرائيل بين عامَي 2008 و2009 حربًا على قطاع غزّة أطلقت عليها اسم «عمليّة الرصاص المصبوب»؛ بغرض إنهاء حكم حركة «حماس» في قطاع غزّة، وتدمير القدرة الصاروخيّة للمقاومة، والوصول إلى المكان الّذي تخبّئ فيه المقاومة الأسير جلعاد شاليط، وقد ردّت المقاومة الفلسطينيّة في القطاع بعمليّة سمّتها «معركة الفرقان».

يغنّي هارت لغزّة ولحقوقها بالعيش بسلام، بعد أن دمّرت ماكينة الحرب الإسرائيليّة منازل الغزّيّين ومدارسهم، وأحالت البنية التحتيّة رمادًا، وجعلتها مكانًا غير قابل للعيش بسبب القصف العشوائيّ لحاراتها وشوارعها. في كلمات الأغنية دفعة معنويّة كبيرة للفلسطينيّين؛ بأنّهم لن يتنازلوا عن أرضهم، وبأنّهم باقون فيها رغم الحصار والقتل والتشريد.

 

مبادرة «موسيقيّون من أجل فلسطين»

وفي سياق الدعم الفنّيّ العالميّ لفلسطين، أُطْلِقت حملة «موسيقيّون من أجل فلسطين» الّتي وقّع عليها نحو 6000 فنّان وموسيقيّ حول العالم؛ لرفض التعاطي مع أيّ نشاط فنّيّ في إسرائيل. وبحسب الوثيقة الّتي أصدرتها الحملة؛ فإنّ الموقّعين أكّدوا أنّه لا يمكنهم أن يصمتوا بعد 75 عامًا من الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ، ونظام الفصل العنصريّ ضدّ الفلسطينيّين، كما وصفته منظّمات حقوق الإنسان الدوليّة والفلسطينيّة والإسرائيليّة الرائدة، وأنّهم يقفون بحزم ضدّ جميع أشكال العنصريّة، بما في ذلك معاداة السود، ومعاداة الساميّة، وكراهية الإسلام، والعنصريّة المعادية للعرب والمعادية للفلسطينيّين.

 

 

ومن بين الموقّعين على الوثيقة مجموعة من المغنّين العالميّين أبرزهم روجر ووترز، وباتي سميث، وكاتيرينا باربيري، والمغنّية الأمريكيّة كيلاني، الّتي شاركت في تظاهرات شهدتها ولاية لوس أنجلوس؛ دعمًا لغزّة، وعبّرت عن دعمها بصورة فيها "أنا أقف مع فلسطين".

 


إحالات

[1] How a Swedish song from the seventies became a new Palestinian anthem, Kubra Solmaz. Trt World, 2023. Access on 12/2/2023 via https://www.trtworld.com/magazine/how-a-swedish-song-from-the-70s-became-a-new-palestinian-anthem-16110940

 


 

مهيب الرفاعي

 

 

 

كاتب وصحافيّ وباحث سوريّ في «معهد الدوحة للدراسات العليا»، حائز على ماجستير «الترجمة التحريريّة» من «جامعة دمشق». تنصبّ اهتماماته البحثيّة في قضايا الإعلام، والسياسة، والصحافة العربيّة.